في الثناء على القرين
أكتب الآن عن رجل ميت خلفَ وراءه رساما لا يزال حياً. يوم كان ذلك الرجل الميت حياً كنت كلما التقيته اتلفت بحيرة بحثا عن قرينه الذي يقوم برسم لوحاته، خارقة الجمال والإثارة. ياسين عطية الذي هو ذلك الرجل الميت والذي يمكن أن يكون أي شيء سوى أن يكون رساما كانت لديه جلساته السرية التي يختلي فيها بقرينه الخفي الذي كان كريما بخيال صوره التي تخبئ جوقة ألوان تحت اللون الواحد. هو ذلك اللون الذي تبرق به عينا ذلك القرين الدامعتان. وهما الشيء الوحيد الذي نجح عطية في استعارته إرثاً شخصياً. ما أن أفكر بياسين حتى أتذكر عينيه الواسعتين، الدامعتين اللتين تذكران بعيني بابلو بيكاسو.
“اما أن تفتح عينيك وتصمت أو تتكلم بعينين مغمضتين. لا يمكنك أن تفعل الشيئين في الوقت نفسه” قلت له ذات مرة مهدداً بعدم الانصات إليه. كان ياسين رجلا معذبا بغربته، شقيا بعزلته، غريبا عن نفسه ومربكا بعثرات حظه السيء. “أنا فاشل. لقد فشلت في الماضي، كما أني سأفشل غداً” يقول ذلك وهو يتلفت خشية أن يكون قرينه قريبا منه فيسمعه. كانت علاقته بذلك القرين عبارة عن حرب عبثية، لا طائل منها. فهي تجري في حياة مؤقتة هي أشبه بوقت ضائع، سقطت ساعاته في بئر عميقة.
لقد استقطع ياسين حياته من فرصة حياة لم يكن عليه أن يعيشها وهو أمر لم يكن مؤكدا. كان يقف عند منتصف المسافة التي تفصله عن ميتتين. واحدة حالفه الحظ في أن يفلت منها صدفة وهو ما كان يدهشه دائما وميتة أخرى يعرف أنها لا تزال تقف في انتظاره في المكان نفسه الذي يدرك أنه سيقوم بالذهاب إليه مدفوعاً برغبته في أن يتحرر من أعباء عجزه عن ممارسة فن العيش كما يفعل الآخرون.
أما كان عليه أن يكتفي بالرسم الذي يسليه ويستغني عن الحياة التي حُرم منها؟ ذلك سؤال متأخر حين يوجه إلى رجل ميت، لم تعد العلاقة به تفارق العتاب الذي يشبه الرثاء. ليس مطلوباً أن نراه اليوم في صفته الآخر الذي كان يمكن أن يكونه لو أنه أمسك بيدي قرينه وتعلم الرسم تاركاً القسوة وراءه كما لو أنها حدث لا يعنيه. لم يكن يتحرر من واقعيته الرثة إلا حين كان يرسم. اما في يومه العابر فقد كان أقل من أن يملأ فراغ الرجل العابر. شيء أشبه بالحماقة ان يتم استرجاعه من جهة كونه الرسام الذي يمكنه أن يباشر الرسم في لوحة تركها منذ لحظات. عطية ليس ذلك الشخص اليسير الذي يمكن إخراجه من لحظة ندم أغلقت أمامه الأبواب. وليس صحيحا القول إنه كان يرسم بفطرته. كان يرسم ما يريد بثقة مَن يعرف جيدا ماذا يفعل. مصادره الضيقة كانت كافية لإنتاج عالم واسع. وكما يبدو فإن تلك المصادر حررت عينيه وأطلقتهما في فضاء تعبيري لا حدود له.
“في النصف الآخر، غير المرئي منه يقيم” مقولة قد تكون مجرد غطاء لما لا يمكن تفسيره في العلاقة الملتبسة بين الرسام ورسومه. فأنت لن تجد الرسام في الشخص الذي تلتقيه. حاولت أن أجره إلى المنطقة التي يمكن له أن يتخلى فيها عن تشتته وضياعه ويأسه وضعف ثقته بالعالم الخارجي وعبثية ذلك العالم وسوداويته من أجل أن أصل إلى تلك العجينة الصافية التي يشكل من خلالها رسومه غير أنني أخفقت في غير محاولة. أظن أنني كنت التقي الشخص الخطأ. وهو الشخص الذي لم يكن يكترث بمصير الرسام الذي يتركه في المرسم مكتفيا باستعارة ثيابه. كان علي يومها أن أكذب على نفسي لكي أصدق أن معجزة عطية تكمن في أنه خلق قرينا يرسم بدلا منه.
حين يلتقي الرسام بظله
كان ياسين عطية إنسانا متشائما ورساما متفائلا في الوقت نفسه. تكشف رسومه عن سر الإنسان الذي يهوى اللعب مثل طفل لم يتراكم في ذاكرته الأسى. يلهو من غير أن يفكر بما يحيط به. ذلك هو الإنسان المتحرر من قيود الواقع. وهو واقع كان بالنسبة لعطية غارقا بالبؤس والظلم والفقر والحرمان. لقد اخترقت غنائية رسومه صمت الرجل العاجز عن الكلام بسبب خوفه الذي يعبر عنه تلفته المستمر انتظارا لعدو خفي. كان عطية يقاوم ضعفه وعجزه وشعوره الدائم بالهلع عن طريق الرسم الحر. لقد وهبه الرسم فرصة أن يكون الإنسان الذي تمكنه حريته من إنشاء كون من التلاقيات اللونية وهو ما لم يكن ميسرا له في حياته الكئيبة التي تخترقها أسئلة غامضة تبقى مفتوحة على استفهامها. وجدت تلك الأسئلة طريقها إلى عدد من لوحاته التي يعالج فيها موضوع القوة وهي لوحات تحتل جزءا استثنائيا من عالمه المترع بالنشوة، المنعم بالشهوات، المفعم بالسعادة.
عاش ياسين حياته كائنا مزدوجا، لا تذكر شخصيتاه المتنافرتان أحدهما بالأخرى. كان المرئي منه واقعيا لا يشي بشيء مما تنطوي عليه شخصية الخيالي الذي يرى نفسه من خلال مرآة الرسم. ما كان يظهر منه سوى النفور والتطلب المتسرع والانطواء والهذر عالي الصوت والانكسار المفاجئ. ذلك يتناقض تماما مع ما يظهر على سطوح لوحاته من استرخاء وعفوية وهدوء وإيقاعات منخفضة الصوت ومرنة. يبدو الرسام مسيطرا على جسده أكثر من الشخص الواقعي. فالانفعال الذي كان ياسين يظهره في حياته اليومية هو من النوع المرتبك الذي لا يوحي بالأمان. اما انفعاله الفني فقد كان على قدر عال من الرقي والتهذيب والعذوبة والانسيابية.
كان ياسين عطية يمشي في ظل الرسام من غير أن يحلم بأن يكونه في حياته الواقعية. شيء منه كان مقلقاً، بحيث يكون سبباً لشعور الآخرين بالارتباك. اليوم وقد أخذ الموت ذلك الكائن المرتاب، المثقل بقلقه وخوفه من العزلة لا يزال الرسام ينظر إلينا بثقة من خلال رسومه التي يبدو كل شيء فيها متماسكا وقويا وواثقا من عزلته. لقد جرب ياسين نوعا آخر من الموت هو أقسى من الموت حين تعرض للسجن لسنوات، أكثر ما كان يعذبه فيها نظرة الرسام إلى عالم فقد القدرة على أن يعيد تركيبه من خلال الرسم.
كان الرسام يومها ينصت إلى همس الأشياء ليتحقق من وجودها اللوني الصاخب الذي كان يعده بغربة، لطالما حلم بها. اما حين تحققت تلك الغربة فقد كان فيها غريبا عن نفسه أكثر مما تتطلبه. فالرسام الذي كان مولعا بمدرسة باريس وبرسوم ممثلها الوحيد في العراق معلمه محمد علي شاكر سعى إلى أن يتجاوزها من خلال حكايته الشخصية التي تنطوي على حكمة فرار لا نهائي من حقيقة كونه قد قُدر له أن يكون غريبا.
كانت حياة ياسين عطية مجموعة متلاحقة من محاولات الهروب.
“هل وصلت؟” “لم أصل بعد” “متى تصل؟” يضحك من بلاهة السؤال وجحود قدره. كان يرسم مثل وحش جائع. لقد قُدر له أن يعثر على مساحة لا ينافسه عليها سوى الموتى من رسامي مدرسة باريس ومعلمه الذي ودعه في عمان، يوم كان يرعاه، وهما يتقاسمان الفقر. كانت غربته في الدنمارك ثقيلة الوطأة. أقصد الكائن الواقعي اما الرسام فلم يكن مصدوما بغربته عن الرسم الحديث في العراق والذي لم يكن جزءا منه بسبب اختلاف الينابيع التي الهمته رسما بمزاج عالمي بالرغم مما تسلل إليه من تأثير كانت المرثيات العراقية مصدره. هناك فقط يتطابق الرسام وظله.
صنيعة خيال يديه
يعالج ياسين عطية موضوعاته بيد الرسام الكلاسيكي الذي لا يعبئ المساحات بالأصباغ بقدر ما يستجيب للإلهام اللوني الذي يفرضه فضاء تلك المساحات. هناك قوة تنبعث من داخل السطح هي قوة جاذبة مكنت الرسام من السيطرة في عملية الاشتباك المتوتر مع الأصباغ. فعطية لم يكن يرسم ليملأ فراغا، صار عليه أن يغطيه بالأصباغ بحثا عن جمالية، هي في حقيقتها نوع من التزويق الرخيص. ليس هناك فراغ ليُملأ. تلك هي الحقيقة وهو صنيع مدهش. ذلك لأنه يقودنا إلى فكرة العالم الممتلئ الذي كان عطية يتحرك فيه. ذلك عالم لم يكن في حاجة إلى تجميل خارجي.
بالرغم من أن الرسام كان يوحي في عدد من لوحاته بأنه يسترق النظر إلى الواقع ليلتقط مقاطع منه، هي ما تشكل انعكاسا بصريا لطريقته في التفكير في الأشياء، غير أن ذلك الفعل لا يشكل أساسا للخلق الفني كما يمارسه. ما ينبعث من داخل اللوحة هو الأهم وهو الذي يلعب دورا أساسا في صناعتها. المسألة كلها تتعلق بفعل الرسم. وهو ما يعني أن تأثير المرئيات في الواقع هو أقل بكثير من التأثير الخالص للرسم. كان عطية يرسم لينافس رسامين أحبهم لا من أجل أن ينقل الواقع. ولكن بماذا ينافسهم؟ أعتقد أنه من خلال غنائية انجذابه إلى رسومهم كان يسعى إلى التخلص منهم عبر مزيد من الممارسة التي طمح في أن تبعده عنهم.
في أشد لحظات تماهيه مع الواقع كان ياسين عطية رساما تجريديا. فهو في حقيقته يؤلف لوحاته. أي أنه يخترعها واضعا نصب عينيه الهبات التي يمكن أن تدرها عليه علاقته بعناصر الرسم. إنه يغمض عينيه حين يرسم على تفاعل تلك العناصر، بعضها بالبعض الآخر. شيء لا يمكن توقعه من إنسان، كانت خبرته في الشقاء تفوق كل خبرة أخرى. غير أن ذلك الحكم يبدو متسرعا. فالفنان الذي وجد في الرسم نوعا من التعويض عن حرمانه في الحياة لا يغادر مساحة الألم وهو يرسم. رسومه التي يتمنى المرء لو كانت سعيدة لم تكن تشف إلا عن حياة مركبة، ليست يائسة تماما غير أنها لم تكن متفائلة. كان ياسين يعرف أنه يسعد الآخرين عن طريق النظر إلى رسومه وهو ما كان يسعده، ذلك لأنه كان كريما في أقسى لحظات فقره.
لا أعتقد أنه كان يبحث عن السعادة في الرسم. ربما لأن السعادة كانت بعيدة المنال بالنسبة لإنسان مثله. غير أن مرحه الطفولي الذي هو نتاج شعوره بالحرية في غربته منحه إحساسا بقيمة ما يفعل على مستوى صناعة الجمال الذي يريح الآخرين ويسعدهم بالرغم من أنه يستند أصلا على مجموعة من الحيل الفنية التي حرص على أن يكررها.
كان ياسين حريصا على أن لا يكرر نفسه. لوحته لا تُرسم إلا لوحة واحدة. وهو ما يكشف عن صدقه بعد أن عذبه الكذب وعن وفائه بعد أن حطمه الجحود. لكثرة ما رسم يُخيل إلي أنه كان يضيف وقتا إلى الوقت المتاح ليرسم. وقياسا لما ظهر على سطوح لوحاته فقد كان ماكنة أحلام ملونة. لم يكن يملك الوقت اللازم لكي يكرر في يومه ما فعله في أمسه. وإذا ما كان جزء مهم من إرثه الفني قد ضاع فلأنه كان كريما من جهة ومن جهة أخرى كان ينظر إلى اللوحات التي ينجزها باعتبارها جزءا من ماضٍ، لن يستعيده.
أما كان عليه أن يبطئ قليلا لكي لا يصل إلى اللحظة التي يشعر فيها بنهايته؟ لقد حدثني كثيرا عن فشله قبل أشهر من موته. فأي معنى كان ذلك الفشل ينطوي عليه؟ إنه الفشل الوجودي الذي لم يستطع الرسم بكل خوارقه أن يعالجه.
يمكن أن يوصف ياسين عطية بأنه الابن الخارق للرسم الحديث في العراق.